By Khaiyam khalid
مفهوم الجهل ومفهوم الجاهلية:
١. يتوهم بعضهم وهو:
يظن أن المجتمعَ الذي بُعثَ فيه النَّبِي مُحَمَدٌ بالرسالة والنبوة، قبل الإسلام؛ أنه: موصوف بالجاهلية لأنهم كانوا لا حضارة لهم؛ أو أنهم جهلة بالمعرفة والعلوم؛ أو لأنهم كانوا يعبدون الأوثان؛ وكثيرة هي التصورات أو الخيالات التي تصرف المتفكر عن الحقيقة؛ مَا لم يدقق في النظر بالفكر في الواقع؛ ويُحسِن الإستدلال بطلب المعلومات المناسبة للتفسير الصحيح له؛ ورعاية ذلك بالفكرة المتفحصة للمعلوم على الوجه الصادق.
٢. إن المجتمعَ الذي بُعثَ فيه سَيِّدنَا النَّبِيُّ مُحَمَدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ بالرسالة والنبوة قبل دخوله في الإسلام:
مجتمعٌ مستقرٌ بنمط مِنَ العادات والتقاليد والأعراف في نظام الأمة؛ من الجهتين الفكرية والسياسية؛ وتتضح هذه الصورة بجلاء كاشف للحقائق بفكرة النظام السياسي لتقريرات دار الندوة مركز قيادة الحكم في قريش آنذاك وإجتماع رأيهم؛ حيث كان يجتمع فيه عقلاء القوم وكبراؤهم؛ وقد إتفقوا على إقرار ما يرونه مناسباً للعدل ومناسباً لرفع الظلم.
٣. ولقد استمرَ هذا العرف
بعد ذلك على طريقة اجتماع عقلاء القوم وكبرائهم في مجلس قريش الذي يأتمرون به لمناقشة كبريات مشكلاتهم ثم لمعالجتها؛ وهم ينظرون بالعقل الجمعي لعرفائعهم وحكمائهم؛ فيعبر عُرَفاؤهم عن طبيعة المشكلات؛ ويحكم حكماؤهم على حسب ما عندهم من أعراف وعادات وتقاليد ورثوها من آبائهم.
٤. ولذلك من هذه الجهة كان القرشيون مجتمعاً
سياسياً بنظام عرفي مستقر تحكمه العادات والتقاليد؛ لا رأس فيه؛ وإنما الرأي للأكثر حجة وأقوى برهاناً؛ وليس مجتمعاً بدائياً بمفهوم قبلي محض أو عائلي متسلط؛ على حسب ما تصوره بعض المعاصرين قياساً على المجتمعات البدائية. بل كان مجتمع مكة والقرى من حولها مجتمعاً متحضراً تحكمه مفاهيم العادات من الموروثات الفكرية والسلوكية على حسب ما تعارفوا عليه من منظومة قيمية إجتماعية، وبما يناسب عيشهم وأعرافهم لذاك الزمان؛ وعلى وفق ذلك ترتبت علاقاتهم بالفطرة أو بالفكرة؛ فكانت لديهم قيم أخلاقية إجتماعية تشكل مفاهيمهم السياسية.
٥. وأشهر هذه القيم العرفية:
إحترام الرأي الآخر؛ فقبلوا جدل الأفكار مع أفكار الدعوة في مكة؛ وتميزوا بالرجوع إلى كبرائهم بالرجوع إلى عقلاء كل قوم؛ ثم إجتماع رأيهم على موقف واحد قبالة الدعوة والرسالة؛ فضلا عن مفاهيم قيمية سياسية كانت تسود مجتمعهم؛ كالإجارة أو الجوار؛ وهو ما يسمى في زماننا باللجوء السياسي؛ والسقاية للحجيج؛ والرفادة وإقراء الضيف؛ وغيرها من مفاهيم القيم الأخلاقية الإجتماعية والفكرية السياسية.
٦. وكذلك لديهم حياة سياسية
في الاقتصاد وإدارة شؤون العيش بالتجارة في رحلتي الشتاء والصيف؛ ولقد أخذ هذا النظام قدسيته السياسية بإحترام قوانين البيع والشراء والأمانة في ذلك من قدسية المكان الذي يأوي إليه الناس على حسب معتقداتهم قبل الإسلام؛وأيضاً: الثقة بعقول سادة قريش وذكائهم وأمانتهم.
٧. أما الجاهلية التي وصف القرآن بها القومَ؛ فهي:
جاهلية الحكم الذي كانوا عليه؛ بأنه لا يرجعون في تشريعاتهم إلى نبي مُرسل ولا إلى كتاب مُنَزل؛ وأن مرجعيتهم في الحكم والسيادة؛ إلى عقولهم؛ لا إلى عقيدة ينبثق عنها نظام ولا إلى كتاب تتفرع منه أحكام؛ وأن أمر الحياة وشؤون الجماعة والمجتمع له ما قبله وفيه ما بعده. ولهذا فإن القرآن من هذه الجهة يصف كل النظم في العالم بأنها جاهلية؛ فوصف أهل الكتاب بأنهم ضالون لأنهم لم يُحَكِّمُوا الكتابَ الذي جاءهم في نظام حياتهم؛ وأنهم إتخذوا أهبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّٰهِ؛ مع أنهم لم يعبدوهم؛ ولكنهم حكموهم في التشريع وأطاعوهم؛ وهكذا سائر أمم العالم في نظر الإسلام: أنها نظمُ جاهلية؛ وَهُم باحتكامهم إلى هذه الشرائع في نظام أممهم يعدون جاهليين وجوباً؛ لأنهم قد فقدوا إنسانيتهم في ترك العقل لمعرفة الوحي والرسالة والنبوة. أو لأنهم معرضون عنها.
٨. ولذلك نجد أن
القرآن لم يصف الشعر زمن البعثة ولا قبلها بالجاهلية؛ بل إعتمد المسلمون أشعار العرب لفهم كتاب ربهم؛ ووصف الشعرَ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ: أن من الشعر لحكمة. فضلاً عن أن القرآن جاء بلسان عربي مبين؛ فهو خاطبهم به على حسب أساليبهم في التفاهم؛ بل إعتمد لسانهم لفَهم المراد وجعل معهودهم في الخطاب أصل لفَهم الكتاب والسُّنَّة؛ فاللسان العربي لسان فيه القابلية للتعبير عن مفاهيم الحضارة؛ وهكذا نجده في القرآن والسُّنَّة.
٩. وذلك يدل من جهة الواقع:
على أن الفكر العربي قبل الإسلام من جهة اللغة واللسان والأخلاق؛ يحمل مفاهيم عن الحياة، ويتسع لسانهم للتعبير عن ثقافة عميقة الفكر؛ مع أن فكرته عن الحياة ساذجة من جهة العقيدة الصحيحة الصالحة ونظام الدين في سياسة الدنيا. ولذلك كانت الجاهلية وصف لعقيدة العرب السياسية وسذاجة مفاهيمهم عن الحياة في نظام الأمة والعالم. وأنهم لا يملكون الفكر المستنير مع أن عقولهم ذكية بالفطرة وملهمة إذا حملت الفكرة الصالحة الصحيحة؛ وهو ما حصل فعلا وتجسد واقعا بعد أن حملوا الإسلام.
١٠. ولهذا تقصد القرآن
نسج خطابه بلسان العرب؛ فجاء بلسان القوم فصاحة وكمالاً؛ قال اللّٰهُ تعالى: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ).
وكذلك لم ينتقص القرآن أخلاق العرب؛ ووصفهم أنهم : أمة أمية على الفطرة؛ وقال عليه الصلاة والسلام : (إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ _ وفي روايةٍ: صالحَ _ الأخلاقِ). ولكنه: وصف تشريعاتهم التي ورثوها بالجاهلية.
١١. وإذا كان هذا وضع العرب زمن البعثة؛
وكانت لديهم قيم أخلاقية في السيادة والسلطة؛ فليس لائقاً أن يصفهم البعض بالبداوة أو المجتمعات البدائية؛ كما هو الوصف عند علماء الاجتماع. وصحيح:(( أن الجهلَ في حقيقته وثنية_ على معنى: أنه يقود إلى عبادة غير اللّٰه _ لأنه لا يغرس أفكاراً بل ينصب بوهمه أصناماً)) إلا أن الجاهلية غير الجهل؛ وهي: تحكيم غير شرائع اللّٰهِ تعالى في نظام الأمة؛ ولذلك لم يصف الإسلام الأمة بالجاهلية لأنها عبدت الاوثان؛ وإنما وصف الأفراد بالجهل لأجل ذلك لِمَن كان منهم لم يستعمل عقله لمدارك الإسلام، ووصف الأمة بالأمية؛ ووصف مَن إحتكم إلى غير شرائع الإسلام بالجاهلية فرداً كان أو جماعة.
١٢. ولذلك فقد أخطأ مَن قال:
من المعروف: أن القرآن الكريم قد أطلق الجاهلية على الفترة التي كانت قبل الإسلام، ولم يشفع لهم شعر رائع وأدب فذّ من أن يصفهم القرآن بهذا الوصف، لأن التراث العربي لم يكن يحوي سوى الديباجة المشرقة الخالية من كل عنصر(خلاق) أو فكر عميق. وإذا كانت الوثنية في نظر الإسلام جاهلية؛ فإن الجهل في حقيقته وثنية.(مالك بن نبي_ شروط النهضة).
١٣. إن هذا الخطاب الذي تلقفه الكثيرون؛
خطاب أدبي جميل وعميق؛ ولكنه ليس دقيقا؛ لأنه إذا كان ينطبق هذا المفهوم على وثنية الشعوب البدائية التي درسها علماء الاجتماع؛ فإنه لا ينطبق على القريشيين والعرب؛ لأنهم لم يتخذوا الأصنام إلا للتقرب إلى اللَّهِ زلفى؛ وللعبادة على حسب فهمهم؛ وليس عندهم الساحر أو الكاهن ورجل الدين على النمط للشعوب البداية، صاحب قرار وفكرة؛ بل كان القرار لعقلهم الجمعي؛ وأما عبادة الأصنام فقد دخلت إليهم فكرة الوثنية تقليداً ومحاكاة لعادات أمم أخرى؛ وهم يعرفون أن لهذا الوجود الآها؛ ولا يعرفون كيف يصلون إليه بالعبادة؛ فلم يكونوا سذج الفكر، بل كانوا جهلة الفكرة؛ وكانوا جاهلين لمعرفة الحق. وهذا جهل في الفكر والعلم؛ وجاهلية في معرفة شرائع الرسالة وأحكام النبوة في نظام الأمة والعالم.
١٤. لم يكن فكرة العرب الخاطئة زمن البعثة
وهي تعاني النقص والعجز والقصور بمعنى لا تدبير لهم في السياسة والحكم؛ إلا أنهم كانوا لا يكتبون ولا يحسبون بالمرقوم؛ وكانوا أمة تحفظ، فهم أمة سمعية وهكذا كانت طبيعتهم يتعاملون بقوة ملكات العقل ومنها الحفظ والتعقل والذكاء وسرعة البديهة والخاطر.
١٥. وأيضاً كانت السيادة عند العرب متمسكة بالذي يكون أكثر نفعاً لجماعتهم وعطاءً؛
وأكثر همةً بالسخاء والكرم والاقراء والعطاء، وهم بين حِدَّة العقل ومكارم الأخلاق يتقدمون لأخذ المبادرة في الوجاهة والرئاسة. وهكذا كانوا خالين من المنافسات الوصولية للسيادة؛ فكان السيد يفرض نفسه على الجمهور ويأخذ زمام المبادرة والرئاسة برجْحَان العقل والكلام الحكيم وسداد الرأي وبلاغة القول وفصاحة اللسان والأمثلة كثيرة.
١٦. وكان العرب عباد أوثان؛
وهذا جهلهم؛ ولكنهم لم يكونوا يتشرعون لها؛ ولا لكهنتها ولا سدنتها؛ فلتلك حياتها ولهذه حياة أخرى؛ فهم ليسوا كالأمم الأخرى؛ التي تحولت من التجمعات القبلية البدائية وعقائد الجهل والجاهلية؛ والسحر والشعبذة والارواح؛ إلى عبادة الملوك والقياصرة؛ وتعبيد السدنة والكهنة والاحبار والرهبان الناس للملوك، على ما كان عليه الروم والفرس والهند والصين. وغيرها.
١٧. ثم تحولت تلك الأمم
إلى نظام ثنائية الحكم وتقسيم السلطة بين رجال الدين ورجال المُلك والمال والقوة؛ في الوقت نفسه؛ كان الرأي عند العرب يرجع إلى كبرائهم من الحكماء والعقلاء أصحاب الرأي؛ فيتقدمهم ألأكثر عقلا؛ والأصوب رأياً؛ وهكذا الرأي في قريش شورى في منتدياتهم؛ في زمن الدجل والسحر في قيادة الدولتين العظميين آنذاك: الرومانية والكسروية..
١٨. ومن وجه آخر:
أن أصل المفاهيم عند العرب؛ في الدين والتدين؛ كما ورثوها من دين إسماعيل عليه السلام على ملَّة سَيِّدنَا النَّبِيِّ إبراهيم عليه السلام؛ وبقت مناسكهم كذلك في الحج والعمرة؛ في الموروث الديني على العادة والتقليد والفطرة؛ وإنْ نَسَوا الفكرة؛ ولولا عمرو بن لَحي الخزاعي لما وجدت عندهم عبادة الأوثان؛ فالعرب أمة على الفطرة أمية الفكرة؛ ورثت عادات وتقاليد في الدين طرأ عليها بدعٌ وتحرفت عن أصولها.
١٩. وبعد كل هذا:
فأين جهل الأمة من العرب زمن البعثة وأين جاهليتها؟؟
الجواب: أن جهلها كائن بمعرفة اللّٰهِ تعالى ومعرفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ومعرفة الرسالة؛ وما يترتب على هذه المعرفة من إعتقاد في واجبات الحياة ووظائفها في نظام الأمة والعالم.
وأما الجاهلية فهي: في مبنى علم الشرائع والأحكام وأساس قواعد عقائد الإسلام؛ وما يُبتَنَى عليها في نظام المجتمع والواقع الحقوقي لسلطة الدولة والحكم. ولذلك عندما يذكر القرآن الجاهلية؛ فإنه يذكرها في مجال التشريع والنظام العام؛ وعندما يذكر الجهل؛ فيذكره في أساس المعتقد الإيماني.
٢٠. ومثال ذلك:
قال اللّٰهُ تعالى :(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَىٰ ۖ وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)
قال اللّٰهُ تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
بعد قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ).
وفائدة هذا المفهوم: تقرير الطاقة الذهنية للعرب زمن النزول لفهم الطاقة الشرعية الفكرية العقائدية والفكرية السياسية للنص الشرعي من الكتاب والسنة. ولذلك أجمع العلماء على وجوب فهم اللسان العربي على أصوله من علوم اللغة واللسان زمن النزول للتأهيل المعرفي في الاجتهاد في العلوم الإسلامية.
Comments